الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
و{ألم نكن معكم} استفهام تقريري، استعمل كناية عن طلب اللحاق بهم والانضمام إليهم كما كانوا معهم في الدنيا يعملون أعمال الإسلام من المسلمين.والمعية أطلقت على المشاركة في أعمال الإسلام من نطق بكلمة الإسلام وإقامة عبادات الإسلام، توهموا أن المعاملة في الآخرة تجري كما تجري المعاملة في الدنيا على حسب صور الأعمال، وما دَرَوا أن الصور مُكملات وأن قِوامها إخلاص الإِيمان وهذا الجواب إقرار بأن المنافقين كانوا يعملون أعمالهم معهم.ولما كان هذا الإقرار يوهم أنه قول بموجَب الاستفهام التقريري أعقَبوا جوابهم الإقراريّ بالاستدراك الرافع لما توهمه المنافقون من أن الموافقة للمؤمنين في أعمال الإسلام تكفي في التحاقهم بهم في نعيم الجنة فبينوا لهم أسباب التباعد بينهم بأن باطنهم كان مخالفًا لظاهرهم.وذكروا لهم أربعة أصول هي أسباب الخسران، وهي: فتنة أنفسهم، والتربص بالمؤمنين، والارتياب في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم والاغترار بما تُموِّه إليهم أنفسهم.وهذه الأربعة هي أصول الخصال المتفرعة على النفاق.الأول: فتنتهم أنفسهم، أي عدم قرأر ضمائرهم على الإِسلام، فهم في ريبهم يترددون، فكأنَّ الاضطراب وعدم الاستقرار خُلُق لهم فإذا خطرت في أنفسهم خواطر خير من إيمان ومحبة للمؤمنين نقضوها بخواطر الكفر والبغضاء، وهذا من صنع أنفسهم فإسناد الفَتْن إليهم إسناد حقيقي، وكذلك الحال في أعمالهم من صلاة وصدقة.وهذا ينشأ عنه الكذب، والخداع، والاستهزاء، والطعن في المسلمين، قال تعالى: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} [النساء: 60].الثاني: التربص، والتربص: انتظار شيء، وتقدم في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [البقرة: 228] الآية.ويتعدى فعله إلى المفعول بنفسه ويتعلق به ما زاد على المفعول بالباء.وحذف هنا مفعوله ومتعلقه ليشمل عدة الأمور التي ينتظرها المنافقون في شأن المؤمنين وهي كثيرة مرجعها إلى أذى المسلمين والإضرار بهم فيتربصون هزيمة المسلمين في الغَزوات ونحوها من الأحداث، قال تعالى في بعضهم: {ويتربص بكم الدوائر} [التوبة: 98]، ويتربصون انقسام المؤمنين فقد قالوا لفريق من الأنصار يندّمونهم على من قتل من قومهم في بعض الغزوات {لو أطاعونا ما قتلوا} [آل عمران: 168].الثالث: الارتياب في الدين وهو الشك في الاعتماد على أهل الإسلام أو على الكافرين وينشأ عنه القعود عن الجهاد قال تعالى: {فهم في ريبهم يترددون} [التوبة: 45] ولذلك كانوا لا يؤمنون بالآجال، وقالوا لإخوانهم: {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} [آل عمران: 156].الرابع: الغرور بالأماني، وهي جمع أمنية وهي اسم التمني.والمراد بها ما كانوا يمنون به أنفسهم من أنهم على الحق وأن انتصار المؤمنين عرض زائل، وأن الحوادث تجري على رغبتهم وهواهم، ومن ذلك قولهم:{ليخرجن الأعز منها الأذل} [المنافقون: 8] وقولهم: {لو نعلم قتالًا لاتبعناكم} [آل عمران: 167] ولذلك يحسبون أن العاقبة لهم {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} [المنافقون: 7].وقد بينتُ الخصال التي تتولد على النفاق في تفسير سورة البقرة فطبِّق عليه هذه الأصول الأربعة وألحق فروع بعضها ببعض.والمقصود من الغاية بـ {حتى جاء أمر الله} التنديدُ عليهم بأنهم لم يرعَوُوا عن غيهم مع طول مدة أعمارهم وتعاقب السنين عليهم وهم لم يتدبروا في العواقب، كما قال تعالى: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} [فاطر: 37] وإسناد التغرير إلى الأماني مجاز عقلي لأن الأماني والطمع في حصولها سبب غرورهم وملابِسُه.ومَجيء أمر الله هو الموت، أي حتى يتمّ على تلك الحالة السيئة ولم تقلعوا عنها بالإِيمان الحق.والغاية معترضة بين الجملتين المتعاطفتين، ومن حق المؤمن أن يعتبر بما تضمنه قوله تعالى: {وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله} الآية، فلا يماطل التوبة ولا يقول: غدًا غدا.وجملة {وغركم بالله الغرور} عطف على جملة {وغرتكم الأماني} تحقيرًا لغرورهم وأمانيهم بأنها من كيد الشيطان ليزدادوا حسرة حينئذٍ.والغَرور: بفتح الغين مبالغة في المتصف بالتغرير، والمراد به الشيطان، أي بإلقائه خواطر النفاق في نفوسهم بتلوينه في لون الحق وإرضاء دين الكفر الذي يزعمون أنه رضي الله {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم} [الزخرف: 20].ويجوز أن يراد جنس الغَارِّين، أي وغركم بالله أئمة الكفر وقادة النفاق.والتغرير: إظهار الضار في صورة النافع بتمويه وسفسطة.والباء في قوله: {بالله} للسببية أو للآلة المَجازية، أي جعل الشيطان شأن الله سببًا لغروركم بأن خَيّل إليكم أن الحِفاظ على الكفر مرضي لله تعالى وأن النفاق حافظتم به على دينكم وحفظتم به نفوسكم وكرامة قومكم واطلعتم به على أحوال عدوكم.وهذا كله معلوم عندهم قد شاهدوا دلائله فَمِنْ أجل ذلك فَرَّعوا لهم عليه قولهم: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} [الحديد: 15]، قطعًا لطمعهم أن يكونوا مع المؤمنين يومئذٍ كما كانوا معهم في الحياة.فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15).يجوز أن يكون هذا الكلام من تتمة خطاب المؤمنين للمنافقين استمرارًا في التوبيخ والتنديم.وهذا ما جرى عليه المفسرون، فموقع فاء التفريع بينّ والعلم للمؤمنين بأن لا تؤخذ فدية من المنافقين والذين كفروا حاصل مما يسمعون في ذلك اليوم من الأقضية الإِلهية بين الخلق بحيث صار معلومًا لأهل المحشر، أو هو علم متقرر في نفوسهم مما علموه في الدنيا من أخبار القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وذلك موجب عطف {ولا من الذين كفروا} تعبيرًا عما علموه بأسره وهو عطف معترض جَرَّته المناسبة.ويجوز أن يكون كلامًا صادرًا من جانب الله تعالى للمنافقين تأييسًا لهم من الطمع في نوال حظ من نور المؤمنين، فيكون الفاء من عطف التلقين عاطفة كلام أحد على كلام غيره لأجل اتحاد مكان المخاطبة على نحو قوله تعالى قال: {ومن ذريتي} [إبراهيم: 40].ويكون عطف {ولا من الذين كفروا} جمعًا للفريقين في توبيخ وتنديم واحد لاتحادهما في الكفر.وإقحام كلمة {فاليوم} لتذكيرهم بما كانوا يضمرونه في الدنيا حين ينفقون مع المؤمنين ريَاء وتقيّة.وهو ما حكاه الله عنهم بقوله: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر} [التوبة: 98].وقرأ الجمهور {لا يؤخذ} بياء الغائب المذكر لأن تأنيث {فدية} غير حقيقي، وقد فُصل بين الفعل وفاعله بالظرف فحصل مسوغان لترك اقتران الفعل بعلامة المؤنث.وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بمثناة فوقية جريًا على تأنيث الفاعل في اللفظ، والقراءتان سواء.وكني بنفي أخذ الفدية عن تحقق جزائهم على الكفر، وإلا فإنهم لم يبذلوا فدية، ولا كان النفاق من أنواع الفدية ولكن الكلام جرى على الكناية لما هو مشهور من أن الأسير والجاني قد يتخلصان من المؤاخذة بفدية تبذل عنهما.فعطف {ولا من الذين كفروا} قُصد منه تعليل أن لا محيص لهم من عذاب الكفر، مثل الذين كفروا، أي الذين أعلنوا الكفر حتى كان حالةً يعرفون بها.وهذا يقتضي أن المنافقين كانوا هم والكافرون في صعيد واحد عندَ أبواببِ جهنم، ففيه احتراس من أن يتوهم الكافرون الصرحاء من ضمير {لا يؤخذ منكم فدية} أن ذلك حكم خاص بالمنافقين تعلقًا بأقل طمع، فليس ذكر {ولا من الذين كفروا} مجرد استطراد.والمأوى: المكان الذي يُؤَوى إليه، أي يصَار إليه ويُرجع، وكني به عن الاستمرار والخلود.وأكد ذلك بالصريح بجملة {مأواكم النار هي مولاكم} أي ترجعون إليها كما يرجع المستنصر إلى مولاه لينصره أو يفادي عنه، فاستعير المولى للمَقَرَّ على طريقة التهكم.ويجوز مع ذلك أن يجعل المولى اسم مكان الوَلْي، وهو القرب والدنوّ، أي مقركم، كقول لبيد:
أي مكان المخافة ومقرها.و{بئس المصير} تذييل يشمل جميع ما يصيرون إليه من العذاب.وقد يحصل العلم للمؤمنين بما أجابوا به أهل النفاق لأنهم صاروا إلى دار الحقائق. اهـ.
|